تجلس في الصف الأخير .. تخرج قبل النهاية

المقاله تحت باب  قصة قصيرة
في 
26/06/2011 06:00 AM
GMT



صباح النور تقولها أم الخيطان دون أن يسلم عليها أحد.. وتمد يدها ليد أخرى لا يراها أحد، فيبدو الأمر كما لو كان فعلاً هناك أحدٌ في البيت تسلم عليه.. تتحدث معه عن حقها القديم.. عن خريطة آسيا.. عن مسمار الحائط.. عن تاريخ العالم.. عن مُربَّى التين.. عن شادي وفادي.. عن أحدٍ ظلمها ولم ترد عليه.. أين.. وكيف؟.. لا تتذكر.. تقول فقط: شكراً وألفَ شكر.. ثم تبدأ الكلام مع جميع من غادروا وتركوها مع رائحة القمصان المكوية بالبخار..
- يا شادي.. تعال تعال.. يا فادي.. تعال تعال.
    جلست أم الخيطان في الفيء وتساقط رماد سيكارتها إلى الأرض دون أن تشعر به.. الوجه الخالي من الزينة هو قناعها.. لن تستطيع النظر إلى نفسها وهي بلا زينة.. وليس أفضل من ذلك القناع الذي تغلق به الباب على نفسها.. لا تتزحزح من مكانها حتى وإن دفعها الحشد إلى الخلف.. ولا تكرر أخطاءها.. لأنها لا تخطئ.. الكرسي المحدد هو مكانها الذي لا تفارقه..... يتذكر الجميع اسمها ولا تتذكر هي اسم أحد.. تغلط كثيراً بالأسماء، ولكنها لا تدري أنها تغلط بالأسماء.. ليس الأقرباء وحدهم من تغلط بأسمائهم، ولكن الجيران والقطط والبلابل، ولا ننسى الفلاح الذي تناديه بعشرة أسماء في الزيارة الواحدة..
    الزعماء وحدهم هم من لا تغلط بأسمائهم، لأنها تعيد خطاباتهم وتحفظ أجزاءً منها.. وكلها كذب.. يقولها رجال كذابون كورق القوبيا.. مقابل نساء نادرات من أول الشهر حتى نهايته.. تسمع شيئاً وتفكر بشئ آخر لحين انتهاء الخيط الأزرق من تثبيت الأزرار البيضاء على الثوب الأسود.. ملهى (ليالي الصفا)، الذي جاور مدرستها الثانوية، كان مكاناً للتخيل والتسكع.. تجلس في الصف الأخير وتخرج قبل النهاية.. وتقطع الخيط الأزرق بنابها المتبقي فوق ناب سفلي.. فتذكرها رائحة الورد بليالي الصفا.. تذكرها بسليمة باشا تغني (يا نبعة الريحان حنّي على الولهان).. فأين ذهبت يا لولو؟ الجرس عاطل والهاتف لايرن.. ترررن ترن ترن.. ولا أحد يرد.. ترررن ترن ترن ثم ترد على نفسها:
-  منو؟
-  آني.
    الببغاء التائه وقف على رأسها ذات يوم عندما كانت تنشر الملابس الملونة على السطح ، فباعته بخمسمئة دولار أيام الحصار، وتعرضت للابتزاز من الصباح إلى المساء.... تلك قصة غريبة تَداولتها ألسن الناس إلى أن أصبحت مشهورة بين اللصوص، فضمضمت فلوسها بين أكياس الخبز الجامد. وعندما لم يتبق في حقيبتها فلس واحد، كادت أن تذهب لتعيش في دير للمسنين لولا أنهم منعوها من جلب ثلاث قطط معها.. لولو وزوزو وفتفوتة...
    لا يوجد من يدور حولها سوى القطط.. الثلاثة يحبونها من أجل الطعام.. ومن يستطيع من الولدين أن يدور حول العالم ثلاث مرات سيفوز بالجائزة.. دار الأول ثلاث مرات حول العالم على ظهر طاووس فلم يفز، ودار الثاني حول أمه ثلاث مرات على ظهر سلحفاة ففاز بالجائزة.. تضحك بلا سبب وهي تضع حبات العنب في طريق النمل وتستفتيه في طعمها فيتجمع حول العنب ولا يرد،  ولكنها تواصل كلامها من الجمعة للجمعة حتى يذبل العنب وينشف ماؤه..
     تروب تروب ..
    تسقط قطعة كبيرة من السقف المجصص إلى صف النمل.. ويتفركش صف النمل دون أن يتفرق تماماً.. لا يستمر هذا الانقلاب سوى لحظات يعود بعدها الأصدقاء إلى السير خلف مئة حبة عنب .. مثل جدها صياد الثعالب الذي يعمل في فلاحة الأرض المنبسطة، فتعطيه سبع سنابل وفي كل سنبلة مئة حبة فيحصدها وتزداد الحبوب.. ولديه جراب فارغ يمتلئ بالبيض.. وبيضة الدجاجة أكبر من بيضة الحمامة، وبيضة الحمامة أكبر من بيضة البلبل، وبيضة البلبل أكبر من وردة القداح.. وزوزو العمياء كانت مبصرة ذات يوم.. والصيدلي المجاور لملهى ليالي الصفا كان يبيع القناني الصغيرة في الصيف والشتاء.. في الصيف دواءات الإسهال، وفي الشتاء دواءات الرشح.. وفي الربيع يقف قرب الباب ويتفرج على المارة.
    تدخل إلى الغرفة وتسلم على نفسها.. ثم تبدأ بالحديث إلى قارورة المربى أو إلى سلة الزبالة.. وتتحسس بيدها قطعة تين لزجة سقطت فوق ثوبها الأسود دون أن تدري متى.. وتنظر إلى أعلى دائماً.. إلى المروحة السقفية البيضاء.. في الصيف تدور حول نفسها وفي الشتاء تمتلئ بالبرغش الميت، وعندما تخرج من الغرفة تتحدث إلى الحمام.. إنه يرى ويفهم ويسمع أيضاً..
    تروي له أسطورة قديمة عن امرأة عندها ولدان وعندها فاكهة تعطي القوة لمن يأكلها، ولكن المرأة متحيرة كثيراﹰ ولا تدري لمن تعطي الفاكهة التي لا يستطيع أن يأكل منها سوى شخص واحد.. هذا ما تقوله الأسطورة التي تحذر من عقوق الأولاد.. فجعلت الأم تمتحن ولديها، ومن يفوز بالامتحان سوف يأخذ الفاكهة..... قالت لهما من سيدور حول العالم ثلاث مرات ويعود إلى هنا قبل الآخر فهو الفائز بالفاكهة. أسرع الأول وكان نحيفاً وركب على طاووس سريع ودار حول العالم ثلاث مرات، وركب الآخر وكان سميناً على ظهر سلحفاة عملاقة ودار حول أمه وأبيه ثلاث مرات.. قال أنا لا أحتاج أن أدور حول العالم فأنتما بالنسبة لي العالم كله ولهذا السبب فاز الولد الذي دار حولهما بهذه الفاكهة .
    كانت أحياناً تحمل مروحة القش في يدها وتحركها لكي تطير الحشرات ولا تقف على ثوبها الأسود.. إنها تطن في الهواء المعتدل.. هواء طيب الرائحة .. والحشرات ترفرف بأجنحتها، ولا تطير بعيداً عن ثوبها المكوي بالبخار.. أما لولو، فكانت ترفع رأسها وتتابع بعينيها الخضراوين كل الحشرات.. ولكن ماإن يتحرك ثوب أم الخيطان حتى تنهض وتدور حولها وتنظر إلى يديها وهي تموء بشكل مزعج وتلج في المواء وكل ذلك من أجل كلمة واحدة تسبق رمي الطعام:
- تعالي ..تعالي.
 بعد ذلك لا تبالي إذا سمعت الشتائم من فمها، ولا تتجاسر عليها عند جلوسها في الشمس الدافئة، ولكنها تهرب عندما تسمع صوتها المرتفع... وتعود بعد قليل إلى طعامها قرب السياج، وتترك أم الخيطان وحدها وهي تعمل في أكل الخيوط التي تخيط بها القماش وفي إصبعها الكشتبان. أحياناً تحمل قطعة القماش التي تخيطها إلى الشمس، وتغني بصوت خفيض جداً يجعل لولو ترفع رأسها إلى الهواء  قبل أن تبدأ الطعام .. ويستمر الغناء إلى أن تنهي  لولو طعامها في إحدى الممرات، فتقول لها أم الخيطان:
- والآن ابتعدي عني.
    لا تفتح الباب إذا نقرها الجيران، وجرس الباب عاطل منذ الأزل.. تتعارك مع أولاد لا يراهم أحد، وأحياناً تلوّح بيدها في الهواء وتسقط  مروحة القش من حضنها فتفز منها زوزو الخوافة التي تهاب أم الخيطان، وفتفوتة أيضاً لا تقترب ..على العكس من لولو الوقحة التي تتمطى بقوة.. ويكاد جسمها يتقطع من شدة التثاؤب .. ولا تخاف من أحد، عدا في الأيام العاصفة وفي أوقات الجوع.. أو عندما تغلق أم الخيطان باب المطبخ بعد الظهيرة ..أكثر من مرة ..وتطفئ النار تحت إبريق الشاي الذي يفور .. أكثر من مرة...وتسد الماء أكثر من مرة .. وتردد بصوت عال: هل أغلقت باب الكراج؟ إي.. ولكني سأتاكد .
    وجدت لولو حمامة صغيرة تأكل من الرز الذي شمّته زوزوالعمياء قبل قليل.. عشرة بلابل أكلت من نصف كيلو رز.. والباقي تأكل منه الحمامة، فكمنت لها لولو خلف العشب العالي، وعندما أزفت لحظة الهجوم انطلقت كالنمر في أثرها.. الفلاح هو الذي تسبب في مقتل فتفوتة بعد أن طردها من الحديقة بمنجله، فطردته أم الخيطان من البيت..مااسمه ؟؟نسيت أم الخيطان اسمه ولم يعد يشذب العشب أحد منذ وقت طويل.. وأصبح مكاناً جيداً للتغوط وللاختباء.. وصيد الحمام أيضاً.. ولكن لولو ظلت تنظر إلى الحمامة بعد اصطيادها. نظرت إلى الحمامة وهي لا تعرف ما هي الحمامة.. هل تأكلها؟.. ساكنة وسط العشب، ورائحتها لا تشبه رائحة اللحم الموضوع في مكان مختلف عن العشب.. والريش مشكلة أخرى.. حمامة!! مختلفة هي الحمامة.. قد تلتهمها لهذا اليوم، ولكنها ليست كالسمك ولا كالحليب.. قلبتها لولو على بطنِها، ثم انتفشت وانتصبت وتقوّس ذيلها بشكل مخيف.. تروبْ.. وإذا بالحمامة تطير، وأم الخيطان فزعة.
 ظلها البارد هذا أحسن من الشمس الحارة مئة مرة. فعادت لولو تنتظر طعامها الذي لا يطير وليس له ريش.. وهذا قط آخر يريد الهجوم على طعام زوزو العمياء ؟!!‏ طردته أم الخيطان وهي تتلفتَ يمنةً ويسرةً، وبعد لحظةٍ ربتت على ظهرِها.. وسمحت لها بالوقوف في الظل.... ظلّ بارد وكبير بقرب جذور النخلة العملاقة التي تنفر من الأرض المجعدة  ..وفي الحديقة هناك الكثير من الجذور الميتة التي لم ينظفها أحد منذ وقت طويل.
    أصبح اثنان فقط يدوران حولهما.. لولو المغرورة وزوزو العمياء.. بعد أن ماتت فتفوتة بسبب أساور الفلاح .... دار فادي وشادي حول العالم ولم يفز بالفاكهة أحد في نهاية الأمر.. دار شادي وفادي حول العالم، ولم يفز بالفاكهة أحد سوى النمل..... قطعت الخيط بثلاثة أسنان وراحت تعد البلابل التي حطت بالقرب من حبات العنب.. إنها سبعة بلابل تأكل من عشر حبات عنب .. وفي يدها نصف برتقالة.